2007/05/27

ليلة القبض على ... النشوة


من وحي منحوتات رودان



الشوق استبد بي، تملكني بجنون، احتل الحواس والخلايا ، صار دمي ومياهي كلها. تحولت كتلة متوهجة يشعّ الولع من منافذها كافة، فيما أنا جالسة في الحديقة التي تتوسط المنتجع الأنيق في قلب الألب الجبال.

الشمس ساطعة دافئة تحنو على القمم الثلجية والكائنات، تبعث الحرارة في أوصالها وتؤجج فيّ العشق بالرغم من صقيع صمتك وبُعدك، وما تسميه "حيادك" الذي لا يصدّ، مع ذلك، لهيب اندفاعي.

هذه الطبيعة هي نحن، أنت وأنا، الثلج والشمس يتعانقان الآن، لماذا لست معي؟

أخرجت الهاتف النقال من جيب معطفي، رقمك مطبوع في ذاكرته الالكترونية مثلما اسمك محفور في ذاكرتي الروحية. من الرنة الأولى رفعت سماعتك:
ـ ألو...
ـ مرحباً...
ـ ماذا تفعل هذا المساء؟
ـ لم أقرر بعد،
ـ تعال إليّ وابقَ معي هذه الليلة...
ـ طيب..

ضغطتُ على زر الجهاز لإنهاء المكالمة وبدأت بالاستعداد لحضورك مع كامل معرفتي بألوف الكيلومترات التي تفصلنا. أنت هناك في أقاصي البعد وأنا هنا تحصرني المسافات. لم تتردد في قبول دعوتي المعتوهة. من منّا أكثر جنونا؟

رحت أعد الساعات في انتظار وصولك بعد انتهاء عملك، مع حلول المساء. هل أنتظرك عند محطة الباصات؟ لا سأذهب إلى غرفتي وأعد عشاءً لنا. لا، نتناول العشاء في المطعم. لا، لن نضيّع الوقت في الأكل. سنكتفي ببعض الفاكهة وزجاجة نبيذ أبيض. سآخذ أيضا زجاجة "باستيس"، أقرب مشروب في مذاقه إلى السائل اليانسوني الأبيض المحبب إليك...

حملتُ مشترياتي وعدت إلى الغرفة، أرتب فوضاي. صنفت أوراقي، فرزت الجرائد والمجلات الكثيرة. وضعت الفاكهة في طبق القش. هنا صحن وسكين وكوبان والزجاجتان. نظرت إلى السرير. إنه ضيق لا يتسع لاثنين. وهل نحن اثنان؟

ابتسمت للفكرة. لا، عندما نكون معا، تعود وتكتمل الدائرة الأفلاطونية العاشقة التي قسمتها الشعرة الشيطانية شطرين، كل منهما يفتش بلا هوادة عن نصفه الآخر. كقطع لعبة "البزل" الشهيرة، عندما يلتقيان، يستقر التكوير في التجويف في تطابق مثالي وتكتمل اللوحة.

شهقت للرعشة التي اجتازتني. تنفست بعمق. أدرت جهاز الراديو.. لا الكاسيت أفضل: "ليلة، لو باقي ليلة بعمري، أبيها الليلة، واسهر بليل عيونك في ليلة عمر، في ليلة عمر..". ستكون ليلة عمر! لست أدري لماذا لم أفكر بدعوتك هكذا من قبل..

عدت بوعيي إلى الصوت الذي يتابع الغناء: "ليلة، لو باقي ليلة بعمري..". "عمري" ما أجملها منكَ، هذه الكلمة، عندما تقولها بلهفة يخيّل إليّ أنها صادقة، وأعود وأطلب منك تكرارها بحجة أني لم أسمع لأتأكد أنك فعلا قلتها...

فتحت باب الشرفة وخرجت إلى الهواء الطلق، أنتظر حلول المساء. جلست أرقب تحوّل الكائنات بفعل تحوّلات النور مع استقرار المغيب... مقصورات التلفريك الأخيرة تتابع نزولها من علياء القمم، تهتز على الحبال في أعالي الجبال وهي تعيد المهووسين برياضة التزلج إلى القرية/المنتجع، بعد إقفال ساحات التزلج الممنوع ليلا، تلافيا للحوادث الخطيرة والانهيارات.

وحلّ الليل لحظة أضيئت مصابيح الحديقة، تلك المصابيح المثبتة بأناقة شديدة وذائقة فنان، لتضفي أجواء سحرية على مشهد يليق بأروع الأساطير.

أصوات العصافير تختلط بضجيج السيارات العابرة، على خلفية من خرير ماء النهر الذي يخترق الحديقة من اليسار إلى اليمين.

فجأة شعرت بالبرد وقررت مغادرة الشرفة، والعودة إلى الغرفة، لمتابعة المشهد البديع من خلف الزجاج. يفترض أنك ستصل بعد قليل، إذا التزمت وعدكَ. فرق التوقيت ساعة بين موطن إقامتك وهنا. لا بد أنك غادرت مقر عملك. أم تراهم استبقوْكَ عندهم؟

"عطني من دنياك حبك، واترك الباقي لهم..."، كلمات أغنية أخرى على شريط الكاسيت المتواصل. شعرت بقلق مفاجيء. ضغطت مجددا على زر رقم هاتفك. رنة أولى، ثانية، ثالثة، ثم رابعة. لم ترد. لقد غادرتَ. أنت في طريقك إليّ. لا، أنت هنا.

يا للسحر أنت هنا، أمامي، بابتسامتكَ التي تثب من الفم والعينين خلف اللحية المحاطة بالشال البني الذي يحاكي لون عينيك. أنت هنا... تعال واخلع معطفك الذي يجعلك أشبه بالرعاة البابليين. تعال ودعني أخلصك من كل ما يبعد يدي عن ملمس صدرك وعنقك وظهرك. أهذا حقا أنت؟

تعال وضمني إلى زاوية الكتف التي كانت عجنة طرية عندما وضعت رأسي فوقها للمرة الأولى وتركتُ بصمة ملامحي في تجاويفها ثم امتلكت الموقع.

تعال واستلق ِ بقربي فوق هذا السرير الضيق لتطمئن يدي على قوسك الفريد. تعال وسنشرب فيما بعد نخب لقائنا السحري السرّي. تعال ولتتفقد أصابعك ـ معشوقتي ـ فرن الخزف الذي اشتعل تلقائيا لحظة وصولك وبات يقذف الحمم المتأججة، فتخرج ندىً مقطراً يمهّد لك السبيل.

تعال، بلا سلام وبلا كلام... هكذا السلام والكلام، والحاضور والدستور، دستور يا أسيادنا! أسيادنا كلهم هنا، حاضرون يحتفلون بليلتنا، ليلة زفاف روحينا. هذه الليلة ستكون النموذج لليلة زفاف جسدينا في ما بعد، عندما ستزول المعوّقات الدنيوية التي رصدت عمرينا حتى الآن، عندما يحين الأوان.

عمري، تعال، قوسك جاهز، مشدود بكل عنفوان. منجل يشتاق لأن يحصد عشقي الناضج الشهي المشتهي. خنجر تعب من الانخراط في الفراغ أو الانغماس في كيانات لا تترك عليه إلا آثار الصدأ..

مكان هذا الخنجر المتعب هنا، ومستقره في غمده. تعال وليستقر فيه كما تستقر اللوزة في قلب النارنج المربّى ويطيب تذوقها، مزمزة... لا تتحرك، بقوة النفس والتنفس سنصل إلى القمم هناك، قمم الألب الشاهقة... تلك الذرى التي يلمع بياضها المثلج تحت القمر البدر وتراها خلف زجاج النافذة العريضة. بقوة النفس والتنفس، بلا حراك، خنجرك في غمده، في غمدي، عيناي في عينيك، جفناك على جفنيّ، ويداك.. وذراعاي.. وصدرك... كلّك في كلّي، تصبح الهواء الذي أتنفس، ولا نتعب. من يتعب من تنفس هواء النشوة، وإن حدث وتعبنا... ننام، وأراك في المنام...

"ليلة، لو باقي ليلة، بعمري..."
وصحوت، صحوت على صوت المغني في الكاسيت الذي ظل طيلة الليل يردد "في ليلة عمر..."، عمري، هل أنت هنا؟ ذراعاي في عناق مع الفراغ، لكني أشعر بامتلاء غريب. أدرت رأسي ناحية النافذة العريضة، وعلى السياج الخشبي للشرفة ظلان يتحركان بقفزات صغيرة، عصفوران يتلاحقان قبل التحليق، وشمس الفجر لم تشرق بعد.

أوقفتُ جهاز الكاسيت، وأشعلت المصباح الصغير فوق السرير. على الطاولة، بقايا النبيذ الأبيض في كل من الكأسين، والزجاجة فارغة. في صحن الفاكهة، السكين وسط قشر التفاح،. وزجاجة "الباستيس"... أين زجاجة "الباستيس"؟ يا "عرصيص" أخذت "الباستيس"؟ أخذت الخمر... لكنك تركت النشوة؟ إنها ما زالت تسري في أوصالي...

ستظل تشرب خمرك.. بلا نشوة.. حتى نعود ويلتقي جسدانا، عندما يحين الأوان...

2007/05/01

سيحدث بعد قليل








سيحدث بعد قليل...

سيحدث بعد قليل... أنني سأخرج من بيتي لألاحق شعاع الشمس الماكر اللعوب الذي أيقظني قبل قليل، ولينبه ألم الظهر الذي نام أمس بعد غفوتي، فأجدني أتقلب جهة الطاولة الصغيرة، وتطالعني ابتسامة صورة الطفل الملائكي لوجه من كنت، ولا زلت، أعشق حتى بعد أن رحل،
غمزت الصورة بعينها... نعم اليوم، الأول من مايو، قبل ثلاثة عقود ونيف، انطلقت شرارة الحب بيننا...



في مثل هذا اليوم، كان عيد العمل، قلائل كانوا يعملون في ذلك اليوم النضالي العمالي، وكنا نحن الاثنين منهم، الباقون يخرجون عادة للمشاركة في المظاهرة المليونية، ويتهادون زهر الموغيه مع القبلات المعطرة بالعبق الحائر بين فل وياسمين وغاردينا قبل أن يقرر بإصرار أنه "موغيه" وبس... مضيفا بأن كل الأزهار الأخرى التي يحاولون تشبيهه بها لاتمتلك الصفة اللصيقة باسمه... "الموغيه" يحمل السعادة مناصفة لمن يُهديه ولمن يُهدى إليه..

سيحدث بعد قليل... أنني ساخرج إلى دار العبادة القريبة، حيث تقف قديسة صاحية ليل نهار، لتنصت بصمت وبابتسامة "موناليزية" محيّرة إلى أحزان وعذابات زوارها اليائسين الذين يؤكدون لها بالدموع والشموع والبخور والتمتمات والابتهالات أن شفاعتها هي ملاذهم الأخير...

سيحدث بعد قليل أنني سأزور شفيعة الحاجات المستحيلة لأوقد شمعة عني وأخرى عن صديقتي الحزينة البعيدة...

وعند خروجي، أعرف أنني لن أذهب يمينا حيث يمكن التوغل في شارع الملذات والموبقات التي توزعت في متاجر ومتاحف وصالات،

سأتوجه يسرة لأشتري، عند منعطف الرصيف، باقة "موغيه"، وأخرى أصوّرها لأرسلها على جناح "الالكتروني" إلى المتألقة بحزن قلبها المطل من العينين، والكامن في بسمتها المحيرة الشبيهة ببسمة القديسة الشفيعة...

ستتلقى المرأة الحزينة صورة الزهرة التي تجلب السعادة، وسيطغى الفرح على ابتسامتها لوهلة، أعرف أنها قد تنسى أنها أمام شاشة صماء (وإن كان الكلام عبرها ممكن)، صماء لا كالغدد الموجعة، ستنسى صديقتي أن زهوري مجرد صورة ويتسلل العبير المفعم بوعود السعادة إلى أنفاسها، ستبتسم، وسينقشع، ولو إلى حين، الغيم الداكن الذي يمطرها بقطرات الحزن الأسود في ليلها الطويل بلا حب
سيحدث أن ابتسامتي الودودة التي ستعلو وجهي تلقائيا حين سأضغط على زر الإرسال في جهازي الكمبيوتري ستكون حاضرة عندما ستضغط هي على زر الاستقبال، وستفلسف هي أيضا، مثلما أفعل الآن، الفرح والكبت في هذا الزمان الذي يجعلنا قريبين وبعيدين في الوقت ذاته

وسأقول لصديقتي، فيما بعد، بالصوت، وربما بالصورة: "أيا كانت العوالم الصحراوية القاحلة التي قد تضطر ارواحنا للعيش فيها، إيماننا الممتطي صهوة الخيال، يسمح لنا بأن نسرق بعضا من نار المسرة الإلهية
هذا ما همست به الشفيعة الصابرة

أعرف أن كل هذا سيحدث بعد قليل، حتى وإن كنت لا أقرأ في الغيب...

2007/04/10

رومانتيكا









"لا نرى جيدا إلا بعيون القلب. ما هو أساسي غير مرئي للعين المجرّدة"...
من الأقوال المأثورة للأمير الصغير، عاشق الوردة...
(عن كتاب أنطوان دو سانتيكزوبيري)
في إهداءإلى صديقاتي وأصدقائي السابقين والحاليين والمستقبليين الذين لا أجد صعوبة في التعرف إليهم من أول نظرة، وبمجرد النظر في عيونهم...لأننا أتينا من المكان ذاته!


تروي الأسطورة التي همس لي بها كائن يقطن حاليا في العالم اللامرئي أنه عندما قرر الخالق أن يسمح للرومانسيين بالنزول إلى الحياة، اشترط عليهم أن ينغمسوا لمدة سبعة أيام في أجواء أجمل جنانه، أصفاها وأنقاها... سبعة أيام كاملة بليالها، سبعة أيام من تلك التي تَقاس بحساباته الكونية الخاصة، أي أنها من التكثيف بحيث يكون الإحساس شديد الالتباس بين طولها وقصرها...
بعد ذلك، يأذن لهم بالانطلاق في وهاد الحياة وفيافيها ليعيثوا فيها، أقول فعلا "ليعيثوا" فيها حبا وجمالا...
وليعيشوا أيضا في تلافيف عذاباتها، لكن هنا تكمن المشكلة، فالقبح والكره أيضا منتشران، مما يجعل مهمتهم شاقة ومضنية...

يتعرفون على بعضهم بسهولة عندما يلتقون...
مثلما يحدس بوجودهم أنصار القبح وأعداء النقاء...
تنظر إليهم، وأيا كانت الفئة التي تنتمي إليها، ستعرفهم من ومض الجمال الذي بقي منعكسا في أعينهم بعد استحمامهم في شلالات الجنة الإلهية الأولى
تعرفهم من هالة الوداعة التي تحيط بهم،
من بسمتهم التي تكثف بدورها كل النغمات مجتمعة على سلم موسيقا المشاعر ،
ابتداء من "دو" الكآبة الهادئة وحتى "سي" الابتهاج الأقصى
مرورا بالـ "ري مي فا سول لا..." الإشراق العاشق الابتسام الحاني الانفتاح الرحيم الانعزال المنغلق"،
كلها نوطات بإمكانهم أن يعزفوها على شتى مقامات" الصبا الوجد والسيكا الثقة" التي يوحي بها حضورهم

لهم جميعا أقول: "أما آن لكم أن تتحدوا لمواجهة القبح الزاحف بجحافله على الحياة...
وأن تتملكوا بعض الأسهم في مؤسستي "القابضة" على سر "ذهب الزمان"
وعندما يحين الأوان، نوزع الأرباح نثرات من البريق غير الملموس،
القادر على حماية رهافة الأحاسيس وهشاشة الحواس الخمس... طبعا دون أن ننسى السادسة أيضا... من أجل الدفاع عن الوردة....؟؟؟؟؟

2007/04/09

بقطفلك بس

في اليوم الثامن
من الشهر الرابع
من عام "الدفاع عن الوردة"...



بقطفلك بس هالمرة...
هالمرة بس...

2007/04/07

صدى الرائحة



إلى رات أيضا...

تحية إلى زمن كنتِ تعدّين فيه الملفات، فأتطفل عليك بالمشاركة تحت اسم مستعار... والنص التالي كان واحدا من مشاركاتي المتطفلة آنذاك، إذا كنت تذكرين...

قول فرنسي شائع مفاده أن "المال لا رائحة له"، وطبعا المقصود مجازا أن مصدر المال لا يُمكن أن يُعرف للوهلة الأولى... لكن من يدقق قليلا في ذاكرته البعيدة والقديمة سينتبه إلى أن للأوراق النقدية رائحة مميزة، رائحة الورق الخاص الذي صُنعت منه، ورائحة الألوان التي اصطبغت بها، ورائحة المحفظة الجلدية أو البلاستيكية التي طويت فيها بعناية، أو رائحة الجيب الذي "تكرمشت" داخله بفوضى وعصبية، أو ربما رائحة النفتالين التي كانت تملأ الخزانة حيث خبّأتها يدٌ بخيلة ليوم الحاجة ثم اضطرت لإخراجها للنور، على مضض، بعد أن راجت شائعات بقرب منع تداول الوريقات الجديدة في مظهرها، بالرغم من تقادم الزمن عليها، وقد حفظتها كرات النفتالين البيضاء من تآكل مادتها ولم تتمكن من حمايتها من تآكل قيمتها...

كل هذا لأقول بأن للمال رائحة بالمعنى الفعلي،غير أن مسألة الرائحة ذكرتني بفيلم أمريكي أحدث ضجة في مطلع سنوات السبعينات، "هارولد و مود"، ويروي قصة امرأة على عتبة الثمانين من العمر، لكنها تضجّ حيوية، التقت بشاب في الثامنة عشرة من العمر ويعاني من أخطر أنواع الاكتئاب، نوع يدفعه إلى إعداد سيناريوهات انتحار لمجرد إثارة الهلع في قلوب المحيطين به... الشاب والمرأة العجوز من هواة حضور الجنازات، وقد تعرّفا إلى بعضهما البعض في إحداها... تولدت بين الاثنين صداقة قوية، وراحت العجوز تلقن الشاب بعضا من تجاربها في الحياة.

صحبته مرة إلى زاوية من بيتها وبدأت تفتح أمامه كنوز مجموعتها من التحف النادرة اتي كانت قد جمعتها فيما مضى مع زوجها الراحل... من أثمن تحف المجموعة دزينة من القوارير الصغيرة التي بدت للشاب فارغة تماما، لكن العجوز طلبت منه الترّيث وإغماض العينين، وصارت تفتح أغطية القوارير تباعا على مقربة من أنفه وهي تقول: "لقد كنا، زوجي وأنا، مولعين بجمع الروائح التي تبدو لنا في طريقها إلى الانقراض... تنشق ما يلي، إنها رائحة مترو نيويورك عند الساعة الخامسة مساء، في عز الازدحام، خليط من روائح فحم وعرق وعطور وبخور... وداخل هذا المرطبان رائحة التراب في حديقة أطفال بعد هطول قطرات المطر الأولى مع مطلع الخريف... وهنا رائحة العشب النديّ المقطوع لتوّه... وتابعت العجوز استعراض الروائح المحفوظة في قوارير تبدو فارغة ظاهريا، لكنها مليئة بما هو غير مرئي، وقد أمكن ذلك عن طريق فعل علمي مركّب ومعقد، كان يُعتبر معجزة في الأزمنة السابقة، وسمح بحفظ الروائح في القوارير، روائح، للأسف، اختفت من الوجود بفعل تطور التقنيات والعلوم!!!

ثم توقفت المرأة المخضرمة عند قارورة فاحت منها رائحة مدهشة فاتحة للشهية، تدغدغ الأنف وتسيل اللعاب، رائحة انتزعت دمعة طفرت من زاوية العين العجوز... نظر الشاب مستغربا إلى معلمته في الحياة ثم عاد وتنشق الرائحة وقد ارتسمت في نظراته أكبر علامات الاستفهام... ابتلعت المرأة ريقها وقالت وقد علت وجهها ابتسامة امتزجت بحنان غريب: "مدهشة أليس كذلك؟ إنها رائحة الخبز الطازج الخارج توا من الفرن، نار الفرن تتأجج بحطب الأشجار، والخبز كان يُصنع يدويا من طحين وماء وخميرة وملح... إنها رائحة صباحية تجعلك تعشق نهارك وتقبل عليه بنهم!!!"
بعد ذلك، تناولت قارورة أخرى ووضعتها تحت أنفه قائلة: "جرّب هذه..."، تنشق الشاب مغمض العينين وقال: "إنها الرائحة ذاتها". ابتسمت المرأة وهي تتمتم: "أنا مسرورة لأنك لاحظت الشبه لكنها ليست الرائحة ذاتها، فالرائحة الثانية هي رائحة بشرة المرحوم زوجي عندما كان يستيقظ من النوم في الصباح، بشرته الدافئة كانت تذكّر برائحة الرغيف الساخن الذي يرغم حتى أكثر الوجوه عبوسا على الابتسام!!!"

2007/02/18

ستون شمعة


موسيقى تنبعث من البوست السابق... يخفت صوتها، ونتابع


بعد إطلالتي السريعة على إحدى وجهات النظر في فلسفة الزمن، عبر التدوينة السابقة، ولا أنكر إعجابي بها، أعود للحديث عن ذهب الزمان ونثراته التي أمضيت سنوات طويلة في جمعها وتخزينها في القارورة الصغيرة التي ترون رسمها في مكان آخر من هذه المدونة.

تأثرت للأصوات والأقلام التي راحت تدعوني إلى الخروج من عزلتي والسماح بدخول نور الحياة والحب ولو من ثقب صغير، وهنا لا بد من التذكير بعنصر هام قد غاب ربما عن أصدقاء مجتمعي الافتراضي الجديد... لقد أطفأت "ستين شمعة" قبل شهرين، وهي ترمز إلى المساحة الزمنية التي أمضيتها حتى الآن في الوجود وأنا أستهلك المليارات من لحظات "الفمتوثانية" ومن الثواني والدقائق والساعات والأيام والشهور حتى بلغت من السنوات ما يجعل ثمن الشموع في تورتة عيد الميلاد أغلى من ثمن التورتة !!! كما اعتاد أن يقول أصحاب الألسنة الطويلة واللئيمة في مزاحهم الثقيل!!!

الحياة لم تبخل عليّ بالحب، منحتني حبيّن عظيمين، الأول "أعطاني عمره" وقضى، والثاني أخذ أجمل "عمري" ومضى، وسأتغاضى عن حبي ما قبل الأول لعبد الحليم حافظ، وحبي ما قبل الأول مكرر لـ "ابن الجيران"، على أساس أنها مرحلة إجبارية لا بد من عبورها قبل نضوج العواطف...

الرسالة المعنونة "إلى مجنون" يرجع زمنها إلى عهد "ما بين الحبّين" ... بعد أن أفشل القدر حكايتي الأولى، وكنت أخشى خوض تجربة جديدة، ومع ذلك، تحديت هواجسي وأقدمت... أقدمت وقدمت كل ما يمكن لامرأة تدين بدين العشق أن تقدمه، هل أخطأت عندما أعطيت كل شيء؟ نبهتني صديقة أنضج مني إلى أننا عندما نعطي كل شيء، لا يبقى للآخر ما يمكن أن يأخذه بعد، ربما كانت على حق، لست أدري...

لم أندم يومها، يوم قرر هو القطيعة، ولم أندم بعد ذلك، رغم كل الآلام، لم أعاتب...
في يوم ميلادي الستين، ابتكرت لأجله ستين سببا تبرر ابتعاده عني دون سبب... حزنت، أي نعم، لكن شبح حبي الأول الراحل جاء ليواسيني بأن أحرق عددا من "اللمبات" في المنزل، (هذه طريقته في مغازلتي من العالم الآخر!!!) طقت واحدة تلو الأخرى، اضطررت بعدها لإشعال الشموع، بعد أن كنت أطفأتها مع أصدقائي للتو في سهرة بهيجة...

أقول في نفسي، هنالك نساء يعشن حياة بأكملها دون اكتشاف سر العشق والولع، وأنا أسعدتني الحياة بهذا السحر مرتين، ولا يهم إن لم تكن هنالك ثالثة... والثالثة هي بالتأكيد من رابع المستحيلات... وإذا حدثت ستكون عجيبة الدنيا الثامنة، لذا فأنا لا أتوقعها وإن كنت لن أرفضها ـ إذا وقعت المعجزة ـ لكن قناعتي بما منحته لي الحياة من لحظات الحب الجارف ـ وقد عبأتها في القارورة الأثيرة ـ هي كنزي الذي لا يفنى...

قد ترتفع أصوات لتؤكد لي أن الحب يمكن أن يأتي في كل الأعمار، لكن هنا فقط تتغلب واقعيتي على رومانسيتي، استثنائيا، فأنا لست "الصبوحة" التي تسمح لنفسها أو يسمح موقعها بوقوع ملوك الجمال الشبان في شخصها، ولا أملك ثروة تجذب خلفي "الجيغولو" الوسيمين، كما أن من هم في مثل سني أصبحوا "عجائز"(صحيح!!!) وأنا لا زلت في عقلي وعواطفي أراوح في مراهقة تتأرجح ما بين سن الرابعة عشرة والخامسة عشرة وآه ونص!!!

بقي لي أن أسترجع لحظات "ذهب الزمان" كتابة، لأتذكر "اللازي ماضا" على طريقة ماري منيب التي هي أيضا، مثلي، "مدوباهم اتنين" كما تقول في إحدى مسرحياتها...

لا لست مازوشية ولا أستعذب العذاب... لكني أريد أن أكتب حكايات الهيام... لماذا أكتب؟ وهو السؤال الآخر... فقط لأرسل في عالم المدونات الافتراضي، وفي فضاء المستقبل، شيئا يشبه رسالة داخل زجاجة، قد يقع عليها قارئ أو قارئة في لحظة خاصة من حياته، يكون في حاجة إليها وسط عالم يزداد فيه الشر والقبح والبغض والقلق والخوف، يوما بعد يوم، لتبقى كتابتي شهادة امرأة أحبت بكل خلايا نسيج زمنها، وبكل ما أوتيت من وجد، امرأة عاشت حرة في كيانها، دون أن تسيء لأحد، لأشهد بأن هذا كان ممكنا، بالرغم من كل شيء، لعلهم يفعلون...

الفمتوثانية





في حساب الزمن : الفمتوثانية =1 على واحد أمامه 15 صفر من الثانية... هذا هو الحاضر، وربما أقل...


من رواية "تكوين العالم" la création du monde ،أحدث ما صدر للكاتب الفرنسي جان دورميسون Jean d’Ormesson عضو الأكاديمية الفرنسية.

جاء على لسان شخصية الخالق في الرواية، وهو يتحدث إلى البطل:

"... المستقبل مخيف لأنك لا تعرفه ولأنه آت لا محالة. ولأن ما لا نعرفه يثير القلق فينا دوما. والماضي قاسٍ لأنك عرفته ولأنه غادرك إلى الأبد، وقد تجمعت كل حسرات الدنيا في هاتين الكلمتين: "إلى الأبد".
على جانبي حاضرك االهش، يقف وحشان ظامئآن، الماضي والمستقبل، ينتظران ابتلاع عصارة الزمن. الأول ـ المستقبل ـ يتحرق شوقا للارتماء في أحضان الحاضر. والآخر ـ الماضي ـ فاغر فاه لالتهام الحاضر ذاته. بمجرد أن يتحول المستقبل إلى حاضر، يكون الماضي قد أتى عليه: ما تسمونه "الحاضر"، أنتم البشر، ليس سوى الهامش الضيق، حبة الرمل، الشعرة الهزيلة التي تفصل ما بين الماضي والمستقبل. بعبارة أخرى، يمكن اعتماد نظرية أن الحاضر غير موجود...

...أنتم تمضون حياتكم داخل شيء غير موجود تسمونه الحاضر...

الزمن هو نسيج الكون.

الحياة لغز على البشر أن يجدوا حله...

في البدء...حين كان الزمن يستعد للبزوغ من رحم الانفجار الكوني الأولي، لم يكن للماضي أي وجود، المستقبل وحده كان موجودا. التاريخ لم يبدأ بالذكرى، بل بدأ بالوعد. لم يكن هنالك ما يجب تذكّره، كان كل شيء مفتوحا على الأمل، وأول تصنيف للوعي التاريخي لم يكن الذكرى، وإنما الإشعار بالحدوث، الانتظار، الوعد. لكن مع جريان الزمن ومع تطور الكون انطلاقا من بروز "رأس الدبوس"(إشارة إلى بدء الخليقة)، بدأ المستقبل الرحب بالانكماش، وانقلب الوعد إلى ذكرى، فيما انتفخ وعاء الماضي.
ما الكون سوى آلة لإنتاج الماضي.

في الأصل، كان المستقبل هو الكل والماضي لا شيء. في النهاية، لن يكون هنالك مستقبل والماضي سيصبح هو كل شيء. التاريخ في المحصلة ليس إلا صراع بين الماضي والمستقبل حول اقتناص لحظة راهنة موجودة دائما وأبدا ومع ذلك غائبة على الدوام..."


شاءت الصدفة ، على افتراض أن المصادفات موجودة، أن أكون قد وصلت إلى الصفحة 103 وما بعدها من الكتاب الذي أعكف حاليا على قراءته في الوقت الذي بدأ الجدل حول تدوينتي السابقة وحول ضرورة خروجي من دائرة الماضي والذكريات بما تحمله من حزن وحنين إلى زمن ولى ورحلت أيامه مع من كانوا فيها.

قد يبدو النص فلسفيا أو حتى سفسطائيا بالنسبة للبعض، لكني قررت عرضه هنا، بعد ترجمته عن اللغة الفرنسية، قبل أن أدلي بوجهة نظري فيما كنت أريد قوله حول علاقتي بالزمان ونثرات ذهبه، و بالماضي وإمكان الخروج منه...وسيكون هذا في التدوينة المقبلة، وشكرا لصبركم، ولإصغائكم...
(موسيقى... تخيلوا مثلا أنها لليوناني ياني Yanni)