"صار لي شي ميّة سنة عم ألّف عناوين..."
جملة جميلة، سلسة وسهلة، اغترفتها الروح من بحور الفن الفيروزي الرحباني بكل أجياله، والكامن، لاشعوريا، في تلافيف اللاوعي...
هذه الجملة، وجدتها من حيث لا أدري، تطفو على سطح الذهن تلقائيا، كما يحدث عادة، عندما أكون بصدد كتابة نص، أو حتى التحدث بعفوية مع أحباء... نعم، هكذا، تتداخل كلمات الأغاني
المنتمية إلى زمن الصفاء والنقاء، ويحلو لي أن أسميه زمن البراءة! تتداخل هذه الكلمات في"المونولوج الداخلي" كما سمّاه علماء النفس ـ عندما تحدّث الذات ذاتها ـ أو في الخطاب الخارجي مع المحيط .
الأقدمون، وهم غير "الأقربون، الأَولى دوما بالمعروف"، كما هو معروف...
هؤلاء الأقدمون، كانوا يستشهدون بالحكم والأمثال الشعبية والعبارات الجاهزة، وحتى الأقوال المأثورة، المتوارثة "أبّا عن جد"... كان هذا قبل زمن الإعلام، بصحافاته المكتوبة والمسموعة والمرئية، لكن مع انضمام الإعلام إلى وسائل تناقل الموروث الشعبي، باتت هنالك عملية "تلاقح"، قوامها التمازج والتبادل، بين الحياة اليومية الواقعية، وما ُيضاف إليها،"مفلترا"، عبر أقنية الصفحة والصوت والصورة..
تجد شاعرا موهوبا، يتنفس هواء الحياة، يمتصه ألما... كما يمتص النبات ثاني أكسيد الكربون، ثم يطرحه جمالا، كما تطرح النباتات الأكسجين في الأجواء...
كلنا تنفسنا الهواء ذاته ، ولكن لسنا جميعا من فصيلة النبات الطارح لأكسجين الشِعر...
كلنا تنفسنا الهواء ذاته ، ولكن لسنا جميعا من فصيلة النبات الطارح لأكسجين الشِعر...
يمكن لكائن شعري إسمه مرسي جميل عزيز، أن يلتقط من مفردات حياتنا اليومية عبارة شائعة إلى حد أننا لم نعد نلتفت إلى كنهها، تقول مثلا: "عارف ليه.. من غير ليه...يا حبيبي بحبك"، يأتي رحيق العبقرية الوهابية الفذة، فيمرر فوقها لمسة من بريق خلطة الجمال السحرية التي لا يعرف سرها إلا الصفوة المختارين من أبناء وادي عبقر.
بصرف النظر عن الذكاء الترويجي الراقي الذي كان يتميز به "موسيقار الأجيال"، صحونا ذات يوم من مطلع سنوات التسعينات لنشهد انتشار أغنية "من غير ليه" في الأجواء،
" كانتشار النار في الهشيم" (عبارة جاهزة)
وعادت عبارة "من غير ليه" لتأخذ قيمة جديدة في حياتنا اليومية، فقد اكتسبت مرجعية فنية مشتركة، وأصبحنا، حتى دعاة الفردية بيننا، نسعد بمشاركة الآخرين، وبما يكاد يشابه التواطؤ، في تداول عبارة باتت تعني شيئا لكل منا، هذا الشيء قد يكون محددا، وقد يكون ذكرى، وقد يكون "قفشة" طريفة،
بالنسبة لي مثلا، تذكرني"من غير ليه" بلقاء مع أصدقاء قادمين من الأوطان الحبيبة، تمّ في أحد المقاهي الباريسية، طلبنا القهوة فأحضرها "الكرسون" الذي أخبرنا أنه مصري بعد أن سمعَنا نتحدث العربية، وصبّ قهوتنا...
( ولم يزدهاهيييييييييييييل!!!! وهذه بدورها عبارة مأخوذة عن الفولكلور الأردني الذي كان عاد وانتعش في سنوات الستينات بصوت "البدوية في باريس" سميرة توفيق... ترى أين هي الآن؟؟؟)
... صبّ قهوتنا وسألني: هل تريدين القهوة باللبن / الحليب؟ أجبت دون تردد: "من غير ليه!" وضحكنا
("ضحك طفلين معا" .. عبارة جاهزة من قصيدة الأطلال للشاعر ابرهيم ناجي والملحن رياض السنباطي وأم كلثوم)...
.. وضحكنا من القلب للقفشة التي تلاعبت بالكلام في اللغتين العربية والفرنسية، بما أن لفظ كلمة "حليب" بالفرنسية هو "ليه"...(lait) .
السطور السابقة تذكر بأهمية إنتمائنا إلى مرجعية ثقافية واحدة نتناقلها من جيل إلى جيل، أفقيا وعموديا، والأبسط أن أقول زمنيا ومكانيا، مع أفراد عائلتي الأقرب والأبعد، لكي نتمكن من أن نضحك معا، ونطرب معا، ونتأثر معا، ونتحمس معا، ونبكي معا، وقد نضطر للمعاناة ، وحتى الموت معا...
( الموت مع الجماعة رحمة !... عبارة شائعة مأخوذة عمن سبقونا)
الموت معا.. ونحن نعرف ما هي مرجعية ما يحرّك المشاعر فينا...
أن لا أضطر لأن أضحك وحدي إذا ما سمعت عبارة من إحدى مسرحيات نجيب الريحاني على لسان الرائعة ماري منيب، بلهجة "عصمليّة " مبالغ فيها : إنتي بيشتغلي إيه؟ من مسرحية "إلا خمسة"، أو أبكي وحدي إذا ما سمعت صوت حليم يهتف: أحلف بسماها وبترابها...!
مَن المسؤول عن محاولات محو ذاكرتنا الجماعية؟
تعددت قنوات الإتصال فكاد التواصل أن ينقطع، والوصل أن لايعود "إلا حلما"..
(لم يكن وصلك إلا حلما... من موشح أندلسي أعاد الرحابنة إحياءه!)
لا بأس من القنوات الاذاعية والتلفزيونية المتخصصة بالأخبار، بالأغاني الشبابية واالكلاسيكية، وبالرياضة والاقتصاد، بالأفلام الأجنبية والعربية والهندية وحتى الكورية، بالسياحة والسفر والمسلسلات القديمة والأقل قدما، ولكن ما الذي يمنع من وجود فضاء إعلامي مشترك يجمع حدا أدنى من أشياء جميلة وأساسية، يتفق عليها المنتمون إلى مختلف الأجيال ؟ ولماذا تتوفر رؤوس الأموال لكل المشاريع سريعة العطب والزوال، والساعية للتشبه بغيرها من المشاريع التي لا تشبهنا، ولا يجد الجادون فلسا واحدا لمشروع يعمل على توثيق أعذب ما في تراثنا من كلمات ونغمات وبسمات وضحكات، يتعاون فيه الشباب والكهول والمتصابون، لايهم ، الكل يعني الكل...!! (عبارة شائعة مأخوذة عن نكتة غير مهذبة... وهذا أيضا تراث !!). لماذا؟؟؟؟
صح ! نسيت...
من غير ليه...
No comments:
Post a Comment