2007/05/27

ليلة القبض على ... النشوة


من وحي منحوتات رودان



الشوق استبد بي، تملكني بجنون، احتل الحواس والخلايا ، صار دمي ومياهي كلها. تحولت كتلة متوهجة يشعّ الولع من منافذها كافة، فيما أنا جالسة في الحديقة التي تتوسط المنتجع الأنيق في قلب الألب الجبال.

الشمس ساطعة دافئة تحنو على القمم الثلجية والكائنات، تبعث الحرارة في أوصالها وتؤجج فيّ العشق بالرغم من صقيع صمتك وبُعدك، وما تسميه "حيادك" الذي لا يصدّ، مع ذلك، لهيب اندفاعي.

هذه الطبيعة هي نحن، أنت وأنا، الثلج والشمس يتعانقان الآن، لماذا لست معي؟

أخرجت الهاتف النقال من جيب معطفي، رقمك مطبوع في ذاكرته الالكترونية مثلما اسمك محفور في ذاكرتي الروحية. من الرنة الأولى رفعت سماعتك:
ـ ألو...
ـ مرحباً...
ـ ماذا تفعل هذا المساء؟
ـ لم أقرر بعد،
ـ تعال إليّ وابقَ معي هذه الليلة...
ـ طيب..

ضغطتُ على زر الجهاز لإنهاء المكالمة وبدأت بالاستعداد لحضورك مع كامل معرفتي بألوف الكيلومترات التي تفصلنا. أنت هناك في أقاصي البعد وأنا هنا تحصرني المسافات. لم تتردد في قبول دعوتي المعتوهة. من منّا أكثر جنونا؟

رحت أعد الساعات في انتظار وصولك بعد انتهاء عملك، مع حلول المساء. هل أنتظرك عند محطة الباصات؟ لا سأذهب إلى غرفتي وأعد عشاءً لنا. لا، نتناول العشاء في المطعم. لا، لن نضيّع الوقت في الأكل. سنكتفي ببعض الفاكهة وزجاجة نبيذ أبيض. سآخذ أيضا زجاجة "باستيس"، أقرب مشروب في مذاقه إلى السائل اليانسوني الأبيض المحبب إليك...

حملتُ مشترياتي وعدت إلى الغرفة، أرتب فوضاي. صنفت أوراقي، فرزت الجرائد والمجلات الكثيرة. وضعت الفاكهة في طبق القش. هنا صحن وسكين وكوبان والزجاجتان. نظرت إلى السرير. إنه ضيق لا يتسع لاثنين. وهل نحن اثنان؟

ابتسمت للفكرة. لا، عندما نكون معا، تعود وتكتمل الدائرة الأفلاطونية العاشقة التي قسمتها الشعرة الشيطانية شطرين، كل منهما يفتش بلا هوادة عن نصفه الآخر. كقطع لعبة "البزل" الشهيرة، عندما يلتقيان، يستقر التكوير في التجويف في تطابق مثالي وتكتمل اللوحة.

شهقت للرعشة التي اجتازتني. تنفست بعمق. أدرت جهاز الراديو.. لا الكاسيت أفضل: "ليلة، لو باقي ليلة بعمري، أبيها الليلة، واسهر بليل عيونك في ليلة عمر، في ليلة عمر..". ستكون ليلة عمر! لست أدري لماذا لم أفكر بدعوتك هكذا من قبل..

عدت بوعيي إلى الصوت الذي يتابع الغناء: "ليلة، لو باقي ليلة بعمري..". "عمري" ما أجملها منكَ، هذه الكلمة، عندما تقولها بلهفة يخيّل إليّ أنها صادقة، وأعود وأطلب منك تكرارها بحجة أني لم أسمع لأتأكد أنك فعلا قلتها...

فتحت باب الشرفة وخرجت إلى الهواء الطلق، أنتظر حلول المساء. جلست أرقب تحوّل الكائنات بفعل تحوّلات النور مع استقرار المغيب... مقصورات التلفريك الأخيرة تتابع نزولها من علياء القمم، تهتز على الحبال في أعالي الجبال وهي تعيد المهووسين برياضة التزلج إلى القرية/المنتجع، بعد إقفال ساحات التزلج الممنوع ليلا، تلافيا للحوادث الخطيرة والانهيارات.

وحلّ الليل لحظة أضيئت مصابيح الحديقة، تلك المصابيح المثبتة بأناقة شديدة وذائقة فنان، لتضفي أجواء سحرية على مشهد يليق بأروع الأساطير.

أصوات العصافير تختلط بضجيج السيارات العابرة، على خلفية من خرير ماء النهر الذي يخترق الحديقة من اليسار إلى اليمين.

فجأة شعرت بالبرد وقررت مغادرة الشرفة، والعودة إلى الغرفة، لمتابعة المشهد البديع من خلف الزجاج. يفترض أنك ستصل بعد قليل، إذا التزمت وعدكَ. فرق التوقيت ساعة بين موطن إقامتك وهنا. لا بد أنك غادرت مقر عملك. أم تراهم استبقوْكَ عندهم؟

"عطني من دنياك حبك، واترك الباقي لهم..."، كلمات أغنية أخرى على شريط الكاسيت المتواصل. شعرت بقلق مفاجيء. ضغطت مجددا على زر رقم هاتفك. رنة أولى، ثانية، ثالثة، ثم رابعة. لم ترد. لقد غادرتَ. أنت في طريقك إليّ. لا، أنت هنا.

يا للسحر أنت هنا، أمامي، بابتسامتكَ التي تثب من الفم والعينين خلف اللحية المحاطة بالشال البني الذي يحاكي لون عينيك. أنت هنا... تعال واخلع معطفك الذي يجعلك أشبه بالرعاة البابليين. تعال ودعني أخلصك من كل ما يبعد يدي عن ملمس صدرك وعنقك وظهرك. أهذا حقا أنت؟

تعال وضمني إلى زاوية الكتف التي كانت عجنة طرية عندما وضعت رأسي فوقها للمرة الأولى وتركتُ بصمة ملامحي في تجاويفها ثم امتلكت الموقع.

تعال واستلق ِ بقربي فوق هذا السرير الضيق لتطمئن يدي على قوسك الفريد. تعال وسنشرب فيما بعد نخب لقائنا السحري السرّي. تعال ولتتفقد أصابعك ـ معشوقتي ـ فرن الخزف الذي اشتعل تلقائيا لحظة وصولك وبات يقذف الحمم المتأججة، فتخرج ندىً مقطراً يمهّد لك السبيل.

تعال، بلا سلام وبلا كلام... هكذا السلام والكلام، والحاضور والدستور، دستور يا أسيادنا! أسيادنا كلهم هنا، حاضرون يحتفلون بليلتنا، ليلة زفاف روحينا. هذه الليلة ستكون النموذج لليلة زفاف جسدينا في ما بعد، عندما ستزول المعوّقات الدنيوية التي رصدت عمرينا حتى الآن، عندما يحين الأوان.

عمري، تعال، قوسك جاهز، مشدود بكل عنفوان. منجل يشتاق لأن يحصد عشقي الناضج الشهي المشتهي. خنجر تعب من الانخراط في الفراغ أو الانغماس في كيانات لا تترك عليه إلا آثار الصدأ..

مكان هذا الخنجر المتعب هنا، ومستقره في غمده. تعال وليستقر فيه كما تستقر اللوزة في قلب النارنج المربّى ويطيب تذوقها، مزمزة... لا تتحرك، بقوة النفس والتنفس سنصل إلى القمم هناك، قمم الألب الشاهقة... تلك الذرى التي يلمع بياضها المثلج تحت القمر البدر وتراها خلف زجاج النافذة العريضة. بقوة النفس والتنفس، بلا حراك، خنجرك في غمده، في غمدي، عيناي في عينيك، جفناك على جفنيّ، ويداك.. وذراعاي.. وصدرك... كلّك في كلّي، تصبح الهواء الذي أتنفس، ولا نتعب. من يتعب من تنفس هواء النشوة، وإن حدث وتعبنا... ننام، وأراك في المنام...

"ليلة، لو باقي ليلة، بعمري..."
وصحوت، صحوت على صوت المغني في الكاسيت الذي ظل طيلة الليل يردد "في ليلة عمر..."، عمري، هل أنت هنا؟ ذراعاي في عناق مع الفراغ، لكني أشعر بامتلاء غريب. أدرت رأسي ناحية النافذة العريضة، وعلى السياج الخشبي للشرفة ظلان يتحركان بقفزات صغيرة، عصفوران يتلاحقان قبل التحليق، وشمس الفجر لم تشرق بعد.

أوقفتُ جهاز الكاسيت، وأشعلت المصباح الصغير فوق السرير. على الطاولة، بقايا النبيذ الأبيض في كل من الكأسين، والزجاجة فارغة. في صحن الفاكهة، السكين وسط قشر التفاح،. وزجاجة "الباستيس"... أين زجاجة "الباستيس"؟ يا "عرصيص" أخذت "الباستيس"؟ أخذت الخمر... لكنك تركت النشوة؟ إنها ما زالت تسري في أوصالي...

ستظل تشرب خمرك.. بلا نشوة.. حتى نعود ويلتقي جسدانا، عندما يحين الأوان...

2007/05/01

سيحدث بعد قليل








سيحدث بعد قليل...

سيحدث بعد قليل... أنني سأخرج من بيتي لألاحق شعاع الشمس الماكر اللعوب الذي أيقظني قبل قليل، ولينبه ألم الظهر الذي نام أمس بعد غفوتي، فأجدني أتقلب جهة الطاولة الصغيرة، وتطالعني ابتسامة صورة الطفل الملائكي لوجه من كنت، ولا زلت، أعشق حتى بعد أن رحل،
غمزت الصورة بعينها... نعم اليوم، الأول من مايو، قبل ثلاثة عقود ونيف، انطلقت شرارة الحب بيننا...



في مثل هذا اليوم، كان عيد العمل، قلائل كانوا يعملون في ذلك اليوم النضالي العمالي، وكنا نحن الاثنين منهم، الباقون يخرجون عادة للمشاركة في المظاهرة المليونية، ويتهادون زهر الموغيه مع القبلات المعطرة بالعبق الحائر بين فل وياسمين وغاردينا قبل أن يقرر بإصرار أنه "موغيه" وبس... مضيفا بأن كل الأزهار الأخرى التي يحاولون تشبيهه بها لاتمتلك الصفة اللصيقة باسمه... "الموغيه" يحمل السعادة مناصفة لمن يُهديه ولمن يُهدى إليه..

سيحدث بعد قليل... أنني ساخرج إلى دار العبادة القريبة، حيث تقف قديسة صاحية ليل نهار، لتنصت بصمت وبابتسامة "موناليزية" محيّرة إلى أحزان وعذابات زوارها اليائسين الذين يؤكدون لها بالدموع والشموع والبخور والتمتمات والابتهالات أن شفاعتها هي ملاذهم الأخير...

سيحدث بعد قليل أنني سأزور شفيعة الحاجات المستحيلة لأوقد شمعة عني وأخرى عن صديقتي الحزينة البعيدة...

وعند خروجي، أعرف أنني لن أذهب يمينا حيث يمكن التوغل في شارع الملذات والموبقات التي توزعت في متاجر ومتاحف وصالات،

سأتوجه يسرة لأشتري، عند منعطف الرصيف، باقة "موغيه"، وأخرى أصوّرها لأرسلها على جناح "الالكتروني" إلى المتألقة بحزن قلبها المطل من العينين، والكامن في بسمتها المحيرة الشبيهة ببسمة القديسة الشفيعة...

ستتلقى المرأة الحزينة صورة الزهرة التي تجلب السعادة، وسيطغى الفرح على ابتسامتها لوهلة، أعرف أنها قد تنسى أنها أمام شاشة صماء (وإن كان الكلام عبرها ممكن)، صماء لا كالغدد الموجعة، ستنسى صديقتي أن زهوري مجرد صورة ويتسلل العبير المفعم بوعود السعادة إلى أنفاسها، ستبتسم، وسينقشع، ولو إلى حين، الغيم الداكن الذي يمطرها بقطرات الحزن الأسود في ليلها الطويل بلا حب
سيحدث أن ابتسامتي الودودة التي ستعلو وجهي تلقائيا حين سأضغط على زر الإرسال في جهازي الكمبيوتري ستكون حاضرة عندما ستضغط هي على زر الاستقبال، وستفلسف هي أيضا، مثلما أفعل الآن، الفرح والكبت في هذا الزمان الذي يجعلنا قريبين وبعيدين في الوقت ذاته

وسأقول لصديقتي، فيما بعد، بالصوت، وربما بالصورة: "أيا كانت العوالم الصحراوية القاحلة التي قد تضطر ارواحنا للعيش فيها، إيماننا الممتطي صهوة الخيال، يسمح لنا بأن نسرق بعضا من نار المسرة الإلهية
هذا ما همست به الشفيعة الصابرة

أعرف أن كل هذا سيحدث بعد قليل، حتى وإن كنت لا أقرأ في الغيب...