2007/04/07

صدى الرائحة



إلى رات أيضا...

تحية إلى زمن كنتِ تعدّين فيه الملفات، فأتطفل عليك بالمشاركة تحت اسم مستعار... والنص التالي كان واحدا من مشاركاتي المتطفلة آنذاك، إذا كنت تذكرين...

قول فرنسي شائع مفاده أن "المال لا رائحة له"، وطبعا المقصود مجازا أن مصدر المال لا يُمكن أن يُعرف للوهلة الأولى... لكن من يدقق قليلا في ذاكرته البعيدة والقديمة سينتبه إلى أن للأوراق النقدية رائحة مميزة، رائحة الورق الخاص الذي صُنعت منه، ورائحة الألوان التي اصطبغت بها، ورائحة المحفظة الجلدية أو البلاستيكية التي طويت فيها بعناية، أو رائحة الجيب الذي "تكرمشت" داخله بفوضى وعصبية، أو ربما رائحة النفتالين التي كانت تملأ الخزانة حيث خبّأتها يدٌ بخيلة ليوم الحاجة ثم اضطرت لإخراجها للنور، على مضض، بعد أن راجت شائعات بقرب منع تداول الوريقات الجديدة في مظهرها، بالرغم من تقادم الزمن عليها، وقد حفظتها كرات النفتالين البيضاء من تآكل مادتها ولم تتمكن من حمايتها من تآكل قيمتها...

كل هذا لأقول بأن للمال رائحة بالمعنى الفعلي،غير أن مسألة الرائحة ذكرتني بفيلم أمريكي أحدث ضجة في مطلع سنوات السبعينات، "هارولد و مود"، ويروي قصة امرأة على عتبة الثمانين من العمر، لكنها تضجّ حيوية، التقت بشاب في الثامنة عشرة من العمر ويعاني من أخطر أنواع الاكتئاب، نوع يدفعه إلى إعداد سيناريوهات انتحار لمجرد إثارة الهلع في قلوب المحيطين به... الشاب والمرأة العجوز من هواة حضور الجنازات، وقد تعرّفا إلى بعضهما البعض في إحداها... تولدت بين الاثنين صداقة قوية، وراحت العجوز تلقن الشاب بعضا من تجاربها في الحياة.

صحبته مرة إلى زاوية من بيتها وبدأت تفتح أمامه كنوز مجموعتها من التحف النادرة اتي كانت قد جمعتها فيما مضى مع زوجها الراحل... من أثمن تحف المجموعة دزينة من القوارير الصغيرة التي بدت للشاب فارغة تماما، لكن العجوز طلبت منه الترّيث وإغماض العينين، وصارت تفتح أغطية القوارير تباعا على مقربة من أنفه وهي تقول: "لقد كنا، زوجي وأنا، مولعين بجمع الروائح التي تبدو لنا في طريقها إلى الانقراض... تنشق ما يلي، إنها رائحة مترو نيويورك عند الساعة الخامسة مساء، في عز الازدحام، خليط من روائح فحم وعرق وعطور وبخور... وداخل هذا المرطبان رائحة التراب في حديقة أطفال بعد هطول قطرات المطر الأولى مع مطلع الخريف... وهنا رائحة العشب النديّ المقطوع لتوّه... وتابعت العجوز استعراض الروائح المحفوظة في قوارير تبدو فارغة ظاهريا، لكنها مليئة بما هو غير مرئي، وقد أمكن ذلك عن طريق فعل علمي مركّب ومعقد، كان يُعتبر معجزة في الأزمنة السابقة، وسمح بحفظ الروائح في القوارير، روائح، للأسف، اختفت من الوجود بفعل تطور التقنيات والعلوم!!!

ثم توقفت المرأة المخضرمة عند قارورة فاحت منها رائحة مدهشة فاتحة للشهية، تدغدغ الأنف وتسيل اللعاب، رائحة انتزعت دمعة طفرت من زاوية العين العجوز... نظر الشاب مستغربا إلى معلمته في الحياة ثم عاد وتنشق الرائحة وقد ارتسمت في نظراته أكبر علامات الاستفهام... ابتلعت المرأة ريقها وقالت وقد علت وجهها ابتسامة امتزجت بحنان غريب: "مدهشة أليس كذلك؟ إنها رائحة الخبز الطازج الخارج توا من الفرن، نار الفرن تتأجج بحطب الأشجار، والخبز كان يُصنع يدويا من طحين وماء وخميرة وملح... إنها رائحة صباحية تجعلك تعشق نهارك وتقبل عليه بنهم!!!"
بعد ذلك، تناولت قارورة أخرى ووضعتها تحت أنفه قائلة: "جرّب هذه..."، تنشق الشاب مغمض العينين وقال: "إنها الرائحة ذاتها". ابتسمت المرأة وهي تتمتم: "أنا مسرورة لأنك لاحظت الشبه لكنها ليست الرائحة ذاتها، فالرائحة الثانية هي رائحة بشرة المرحوم زوجي عندما كان يستيقظ من النوم في الصباح، بشرته الدافئة كانت تذكّر برائحة الرغيف الساخن الذي يرغم حتى أكثر الوجوه عبوسا على الابتسام!!!"

3 comments:

Diala said...

عم قول لحالي... ليه منور عالم التدوين؟

الحمدلله على السلامة
سعيدة بعودتك

هي said...

نارنجتي
شكرا للمفاجأة السارة
لم أنس يا صديقتي لأتذكر
كيف أنسى ذلك "التطفل" البديع الذي دوّخت به الجميعتحت اسم توأم روحي
تعرفين؟ لم أبح مرة بسرنا هذا لأحد علما ان الجميع يتحرق شوقا لمعرفة هوية المتطفل، لغاية اليوم عندما يسألني أحدهم عن توأم روحي اقول إنني لا اعرف
بعد أكثر من عشر سنوات اقرأ نصك و كأنني لم أصادفه قبلا أقرأه و كأنها المرة الأولى
اختلف فهمي له، اصبحت احس بقيمة معانيه أكثر من ذي قبل، كيف لا و قد جعلتني اشاهد مؤخرا "هارولد و مود" و انا ممتنة لك على هذه المشاهدة
نارنجتي
كتبت تعليقا لم يبصر النور لاسباب تقنية، لكنه كان وليد لحظة انفعال و اجمل من الذي يرد هنا الان، و نسيت ماذا قلت فيه
المهم
لا تزعلي اذا فقد عطرك المفضل من الاسواق انا على يقين انه قاطن في دهاليز حواسك مجتمعة
امر أخير
لا اريد التدخل بعلاقتك مع التدوين لكنني فقط اذكرك بأنني لا زلت انتظر حكاية ذهب الزمان يا صاحبة الحكايا الساحرة
محبتي العميقة

Narinja said...

ديالا
رات
أسفة للغياب بس "المحل" كان مغلق للصيانة!!! صيانة الجسد وترميم الروح
شكر من الأعماق للاهتمام